الخاتمية وتأويلها

 

من كتاب جنّة الكلمة الإلهية

د. سوسن حسني   و أ.عبد العزيز الهادي

الفصل الرابع

الخاتمية وتأويلها

في الفصل السابق تناولنا فكرة التأويل بشئ من التفصيل مع التعريف بمعني التأويل. وتطرقنا إلي ما  اشتملت عليه الكتب السماويه من أيات متشابهات تحتاج إلي تأويل. وأن ذلك ليس موجودا في القرآن فحسب بل هو موجود في جميع الكتب المقدسة السابقة. ويمكننا الرجوع إلي ما يتوفر منها بين أيدينا في الوقت الحالي. أمّا في هذا الفصل ستناول مثالا جديدا لهذا التأويل الخاطئ للكلمة الإلهية وما نتج عن هذا التأويل من عواقب وخيمة علي من اتّبعوه من الأمم السابقة. ونظرا للأهمية الباغة لهذا الموشوع خصصنا له فصلا كاملا.

إن ما يشكّل عاداتنا ومواقفنا في الحياة يرجع، وبلا شك، في الغالب إلي البيئة المحيطة التي ينشأ فيها الفرد، كما تعود تصرفاتنا بل وحتي توقعاتنا إلي ما تعلّمناه في الصغر سواء أكان ذلك من الوالدين والأسرة أم من المدرسين والأساتذة أم من العلماء والسلطة  الدينية. وبناء علي ذلك تتشكّل معتقداتنا وتبني آراؤنا وتتبلور شخصياتنا. فينعكس كل ما تعلمناه في تصرفاتنا وفي نظرتنا إلي الآخرين بل وفي تقييمنا لهم وتقبلنا لوجودهم بيننا أو عدمه.

وقد يكون من المثير حقّا ظاهرة تواجد أفراد وجماعات كثيرة من معتنقي الديانات السابقة والتي تقدر أعمار البعض منها بآلاف السنين. وقد يكون من الطريف أيضا أن كل فئة منهم تعتقد إعتقادا يقينيا بسلامة ديانتها وبطلان ما سواها من ديانات. فتري أن كثيرا من أصحاب هذه الديانات يعلن صراحة عن اكتفائه بالدين الذي ولد ونشأ عليه والإقرار بعدم الحاجة إلي دين آخر مهما تغيّر الزمان ومهما تطوّرت أساليب الحياة، فيصرون علي البقاء علي ما توارثوه عن الآباء والأجداد لأن ما تعلّموه فقط هو الصحيح وما دونه باطل حتي ولو جاء بمثل ما يؤمنون به من مبادئ.

وقد يكون من الأكثر إثارة أن يخوض كل احد منا التجربة ويسأل نفسه لماذا هو يدين بهذا الدين أو بذاك؟ لا يهمّ بأي دين من الأديان يؤمن سواء أكان من الديانات المعروفة أم من غيرها من الديانات الكثيرة الغير معرفة. علي أن نتريّث ونتأمل مليّا في هذا السؤال قبل أن نجيب بصدق عليه. نحن علي يقين بأن أكثر الإجابات، إن لم تكن جميعها، علي الرغم من اختلاف الأساليب وتباين الحجج؛ ستكون لأنهم ولدوا علي هذا الدين ولن يموتوا إلا عليه.

وقد تُوصلنا هذه النتيجة إلي تفسير بعض التساؤلات التي قد تخطر علي أذهاننا بين الحين والآخر مثل:

لماذا لم يؤمن البوذيون مثلا بموسي عليه السلام ومن تلاه من الرسل؟

ولماذا لم يؤمن البوذيّون واليهود بالمسيح عليه السلام ومن جاء من بعده؟

ولماذا لم يؤمن البوذيون واليهود والسيحيون بالرسول محمد ؟

وعلينا أن نتأمل بتؤدة في تاريخ الأديان التي وصلت إلينا وبحياد شديد، وبنظرة موضوعيّة بعيدة كل البعد عن أي تعصب لدين من الأديان للتعرف علي السبب الرئيسي لهذه الظاهرة المتكررة علي مر العصور والدهور.

لقد حلّل القرآن الكريم هذه الظاهرة تحليلاً موضوعيا في أكثر من موضع، وأوضح بجلاء شديد السر الذي يكمن وراء هذه الإشكالية ألا وهو الاستكبار والرغبة في الحدال. هذان، وبلا أدني شك، هما الدافعان الأساسيان وراء اعتقاد كل أمة بأبدية شريعتها وختم رسالتها لكلّ ما سبق من الرسالات. لذا لا يكون إلا الإعراض والتكذيب لمن يظهره الله من عباده المختارين، وردّ الفعل المتوقع ليس إلا الطريق المسدود الذي يسلكونه وهو إتباع سُنن الأولين.

” وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ””([1])

إن عقدة الخاتمية التي تدّعيها كل أمة، واسمحوا لنا بأن نسميها عقدة لأنها هي المعوًل الهادم الذي تُقابل به كل رسالة جديدة، وتكون في الوقت نفسه السبب الرئيسي في سقوط الأمم في هاوية الهلاك. وفي حقيقة الأمر هي الدافع المتكرر دائما وأبدا وراء إعراض كل أمة عن الإيمان بمن يأتي بعد رسولهم من رسل، وسبب الغفلة عن تحذير كل رسول إلي أمته من اتباع سنن الأولين ([2]) وتكرار دعوي الجاهليّة الأولي بأنهم وجدوا آباءهم علي أمّة وأنهم علي آثارهم  “مهتدون” ([3])

أو “مقتدون”. ([4])

وكما يثبت تاريخ الانسانية بأن إدعاء المدّعين وإعراض المعرضين لا يقوي في كل دورة علي حجب الأشعة الساطعة من شموس الهداية الربّانية ومهابط الوحي الإلهي لأنها مصدر الحياة ليس للعالم الإنساني فحسب، بل للمخلوقات جميعها والكائنات بأسرها، ولكل ما يختويه الكون برمته من الغيب والسهود.

وليس من العجب أن يتناسي الناس قصص الأنبياء التي حفل بها كتبهم المقدسة، وما فيها من العبرة الكاملة ولكن العجب كله يكون في تمادي البشرية في غفلتها وتكرار العمل نفسه الذي كانوا ينكرونه علي اسلافهم من الأمم السابقة.

واسمحوا لنا بالاقتراب قيللا من أحوال هذه الأمم اليوم لنتصور كيف سيكون الحال لو أن أتباع كل دين نشأوا منذ الصغر علي ما صرّح به رسلهم، وامتلأت به كتبهم السماوية التي يؤمنون بها من تأكيد علي استمرارية الرسالات الإلهية، أو لو فطنوا إلي ما جاء فيها من توضيح لسنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل، وهي تتابع الرحمة الالهية واستمرارها ذلك بارسال الرسل. هذا بالإضافة إلي ما اشتملت عليه الآيات من تحذير صريح من االتكذيب بالرسل والإعراض عنهم وما أشارت إليه بوضوح عن الوعد والوعيد بمعاقبة من يتبعون سنن الأولين علي الرغم من تلك الحقيقة الثابتة التي تؤكدها الآيات وهي استمرارية السنة الإلهية. وهنا يجدر بنا أن نتساءل أي سنة تكون أعظم وأجلّ من إرسال رسله لعباده؟  أليس هي الرحمة الإلهية، والغيث الرباني الذي لا ينقطع؟

وهل كانت ستبقي الأمة الواحدة المذكورة في كتب الله، تلك الأمة التي لا تجد اختلافا في دين الله الواحد علي الرغم من تنوع شرائعه لتتناسب مع مقتضيات الزمان؟.

وهل كان هذا الاعتقاد سيجنّب البشرية المعذّبة الكثير من الحروب المدمّرة، والاعتداءات السافرة، بل والإبادات الكاملة التي ترتكب في كل زمن من الأزمان باسم دين من الأديان؟

وهل كان سيتحقق السلام بين بني البشر والوئام بين بني الإنسان؟

سنحاول الاقتراب تدريجيا من عقدة الخاتمية، وسيكون مثالنا في ذلك من القرآن الكريم الذي هو آخر الكتب المقدسة التي بين أيدينا وأكثرها توثيقا. لذا سنحاول أن نختصر بعض الأمثلة للتأويل البشري وما أدي إليه من سوء الفهم لبعض الآيات، واللبس الذي من خلاله تولّدت فكرة الخاتمية.

سنتحدث عن الآية التي تناولت فكرة الخاتمية وأسيئ فهمها سواء أكان عن قصد أم عن غير قصد. ذلك الفهم الخاص الذي تشكلت بناء عليه معتقدات أمة بأكملها. علي أن نضع في الاعتبار أن ما سنتوصّل إليه من نتائج ينطبق بالتمام والكمال علي كل ما جاء في الكتب السماوية السابقة من آيات تم تأويلها بالمفهوم نفسه وهو أن رسالاتهم كانت الرسالات الخاتمة. وبالتالي يمكننا الإجابة عن الأسئلة السابقة عن أسباب تواجد أناس يدينون بديانات عديدة لا تعدّ ولا تحصي في كل ركن من أركان البسيطة، مع يقينهم الكامل بأن الكتب التي جاءت بعد كتابهم ليست سماوية، وبأن من ادعي الرسالة من بعد رسولهم ليس من عند الله، وبأن ما جاءو به من دين فهو ليس سماويا. هكذا يصدر الحكم القاسي من كل أمة بإغلاق باب الرحمة الإلهية بعد رسالتهم، وانقطاع الوحي الصمداني بعد رسولهم، وعزوف الله بالكليّة عن مخاطبة خلقه وهداية عباده.

أولا: سورة الأحزاب

“ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا” ([5])

نبدأ تحليلها لهذه الاشكالية بالآية السابقة مع ضرورة الانتباه إلي أنها الآية الوحيدة في القرآن التي تنفرد باشتمالها علي لفظة “خاتم”. لذا فمن الضروري أن نتأمل هذه الآية في سياق السورة كاملة وليست بمفردها منقطعة عن ما قبلها وما بعدها كما يفعل البعض علّنا نصل إلي لبّ المعني المقصود منها.

1 – السياق العام للسورة

كما هو معروف بأن القرآن نزل منجّما علي الرسول  في ثلاثة وعشرين عاما، إلا أن ترتيب الآيات كان بوحي من الله، وتحت رعاية الرسول نفسه. لذا فالبناء المتماسك للسورة لا يسمح بالاقتراب من فهم آية من الآيات منقطعة عن السياق العام للسورة. كما يكون من القصور النظر الي اللفظ منقطعا عن سياق النص، بل يتحتم علينا النظر الي اللفظ من خلال النص، وتدبّر النص في ضوء السياق العام للسورة. هذا بالاضافة إلي الرجوع إلي ما يقترن بالفكرة نفسه من آيات، وما يقترن بها من دلالات تاريخية، ومعرفة الأسباب المنطقية للنزول حتي يتسني لنا الوصول إلي جوهر الفكرة، وإلي إدراك الغرض الأساسي الذي من أجله استعملت لفظة “خاتم” تجنباّ لأي سوء فهم يكون من شأنه حرمان أجيال وأجيال من الرحمة الإلهية والنعمة الربّانية، فيقعون في نيران الضلال وهلاك العصيان.

إن إسم السورة هو سورة “الأحزاب” وقد ذُكِرَ لفظ “الأحزاب” سبع مرات في سور مختلفة، وبتدبّر معانيها نجد أن المقصود منها هو تلك الجموع التي تألبت علي النبي  وتظاهرت علي حربه. وقد يكون في الآية 21 من السورة ما يعكس المضمون العام لهده السورة بكاملها:

“لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا”([6])

فسورة الأحزاب بآياتها الثلاث والسبعين تدور حول بيان مقام الرسول  مع كل من آل البيت ومجتمع المؤمنين. علي الرغم من أنها سمّيت باسم إحدي غزوات الرسول  إلا أن الحديث عن الغزوة نفسها لم يتجاوز التسع عشرة آية بدءأ بالآية التاسعة. ولعلّ الحكمة الإلهية من وراء ذلك هي قوة دلالة هذه الغزوة علي بيان مقام الرسول.

أما فيما يتعلق بالحديث عن لفظة “خاتم” فلقد جاء في أسباب النزول بأن هذه الآية نزلت من أجل تطبيق حكم جديد من أحكام الأحوال الشخصية، وهو ليس إبطال حكم الميراث للإبن المتبنّي فحسب، بل وإبطال حكم التبنّي نفسه والذي كان سائدا في الجاهلية فكانوا يطبقون الأحكام الخاصة بالإبن الشرعي علي الإبن المتبنّي بالكامل.

2 – السياق التمهيدي لآية الخاتمية:

” مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا”([7])

لقد جاء في الآيتين 38 و 39 السابقتين لآية الختم المذكورة توجيه صريح إلي مجتمع المؤمنين مبيّنا لهم مقام الرسول عليه السلام، وضرورة امتثالهم لما يأتي به النبي من أحكام وأوامر، مع التأكيد علي أن مهمة الرسول هي تبليغ ما أمر به من الله من دون حرج أو خوف من أن يصدم القوم في معتقداتهم أو في تغيير عاداتهم السابقة.

ونري روعة التطابق بين الآية 38 والآية الرئيسية وهي الآية 40 موضوع بحثنا من الناحية اللفظية أولا وذلك في البدء بكينونة النفي “ما كان”. وثانيا من الناحية المعنوية حيث تبث كل منهما روح الاعتزاز والإكبار للنبي  والتنزيه الكامل لحضرته. كما نلمس التمهيد والتخفيف عن النبي فيما فرض الله عليه من تبليغ أمر مخالف تماما لما اعتاد عليه القوم، وتذكيره بأهمية تبليغ ما فُرض عليه من دون حرج أو ما قد يسمّي تواضعا لتبرير الشعور الذاتي للنبي موضحا أن هذه هي سنة الله ويجب اتباعها لأن كل أمر مكتوب ومقدر من لدنه. مؤكدا بأن الرسل الذين يبلغون رسالات الله لا يخشون سواه علي الرغم من استنكار أقوامهم وحتي المؤمنين منهم خاصة عند إبطال عادات أو أمور كانوا يعتقدون بأبديتها علي مر الدهور والأزمان. وهذا ما تؤكده عبارة “الذين خلو من قبل.”

ثم يأتي بعد ذلك الحكم الذي يجب أن يبلغه الرسول لقومه دون حرج والذي يقوّض واحدا من أهم قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في ذلك الوقت، وهو أن الإبن بالتبني ليس كالإبن الشرعي، وبالتالي لا تسري عليه القوانين نفسها. وهذا ما ستناوله بشئ من التفصيل.

3 – التقييم الإلهي للشخصية المحمّدية في آية الخاتمية

بعد أن بينت الآيات بأن الرسول يجب أن يبلغ أوامر الله من دون حرج، وبأن هذه هي سنّة الله وميشئته. يأتي الحكم القاطع والنفي البات في أن يكون محمد  أبا أحد من رجال هذه الأمة مع التأكيد علي صفته ومكانته بأنه رسول لله وخاتم النبيين.

وهنا نتساءل، لماذا ذكر الله عبارة “وخاتم النبيين” في هذا السياق؟

وما علاقتها بالموضوع الذي تتحدث عنه السورة بأكملها، وعلي وجه الخصوص الآيات  التي مهدت لهذه الآية؟

بل ما علاقة ختم النبوة بتنزيه الرسول عن كونه أبا أحد من أبناء هذه الأمة في الآية نفسها؟

وما علاقة إبطال عادة التبني بموضوع عقائدي بل ومصيري وهو ختم النبوة؟

فهل لنا أن نلاحظ أن السياق بترتيبه المنطقي يشتمل علي النقاط التالية، وهي:

  • رفع الحرج عن الرسول في تبليغ ما أمره الله به.

  • تنزيه الرسول عن تمييزه بمقاييس التفاخر القبلي وهي الذرية من الذكور، ولفت النظر إلي ما يتميّز به مقامه بأن الله اصطفاه دون سائر البشر ليكون رسول الله المؤيّد بالسلطنة الإلهية التي تفوق أي سطان. لذا لن يكون أبا لأحد من رجال هذه الأمة. فكما هو معروف أن أبناء الرسول الذكور قد توفاهم الله قبل أن يبلغوا الحُلُم لذا عايره بعض الكفار ونعتوه بلقب “الأبتر” بسبب عدم بقاء أحد أولاده الذكور كي يحمل اسمه. وقد جاء الرد الإلهي علي هذه المعايرة في سورة الكوثر:   ” إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ” ([8])

  • الإستدراك بلفظة “لكن” للتنبيه إلي مقام الرسول ودرجته العظيمة بينهم وهي أنه رسول لله.

وإذا تتبعنا تسلسل الآيات نجده واضحا ونري كيف أن السياق متماسك، ولكن لماذا جاء العطف التالي علي عبارة “رسول الله” بعبارة أخري وهي “خاتم النبيين”؟

وهل في هذا إخبار بموضوع انقطاع الرسالات وتوّقف الوحي بعد ذلك؟

وهل من المعقول خروج الآيات عن السياق العام للسورة وتجاهل أسباب نزول الآيات ليخبرنا الله بقصية مصيريّة جديدة كهذه؟

وهل يمثل هذا الاختصار الشديد والاقتضاب الحاد يُعلن الرّحمن الرّحيم عن انتهاء الرسالات السماوية وانقطاع الوحي الإلهي وإغلاق أبواب الرحمة وانقطاع الصلة الأبدية بين الخالق والمخلوق والاكتفاء بما نَزلَ في القرآن الكريم؟

وهل بمثل هذه البساطة والغموض في الوقت نفسه يخبرنا الله بهذا التغيير الجذري في سنّته التي أكّد في كثير من الآيات بأنها باقية وليس لها من تبديل أو تحويل وكأنما يخبرنا بموضوع عابر؟

ولماذا جاءت “خاتِم بالكسرة؟

ولماذا قرّق الله بين رسول ونبي، وذكر الختم للنبي ولم يذكره للرسول؟

4- في لفظة “خاتم” تأكيد علي انتهاء وراثة النبوّة واستبدالها بالخلافة:

دعونا نتوقف قليلا لنتأمل في الآيات علّنا نصل إلي إجابة لبعض هذه التساؤلات المنطقية التي قد يكون من حق كل واحد أن يتفكّر فيها ويجد لها جواباً شافياً.

ألا يكون ذكر عبارة الختم هذه تأكيدا ضمنيا بأنه لن يكون للرسول ابن ذكر ليس فقط بالتبني بل ولا حتي من صلبه؟

وهل بهذا الافتراض ينسجم المعني مع سياق الآية والموضوع الذي نتحدث فيه؟

بالرجوع إلي ما ذكره الزمخشري في تفسيره لهذه الآية بأنه لو عاش لمحمد أبن لورث النبوة كما كان معروفا ومتّبعا من قبل، وبذلك لن يكون محمد هو خاتم النبيين، لأن النبوة كانت تورّث لأبناء الرسل كما نري في أنبياء بني إسرائيل. وقد أكد النبي  علي هذه النقطة عند وفاة ابنه ابراهيم وهو طفل.

فقد جاء في فتح الباري لشرح صحيح البخاري قوله: (ولو قضي أن يكون بعد محمد نبيّ لعاش ابنه ابراهيم ولكن لا نبيّ بعده) هكذا جزم به عبد الله بن أبيّ، وفي مثل هذا لا يقال بالرأي، وقد توارد عليه جماعه: فأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: “فلماّ مات ابراهيم ابن النبي  وقال: إن له مرضعات في الجنة ولو عاش لكان صدّيقا نبيّا، ولأعتقت أخوالَه القبط” ([9])

وهنا يتضح بجلاء أن عبارة “خاتم النبيين” جاءت في مكانها من السياق، بعد أن بيّن لهم الله الحقيقة الكبري وهي عدم أبوّة الرسول لأحد وأنه لو كان الله يريد أن يورّث النبوة بعد الرسول  لما توفي أبناؤه الذكور من قبل أن يبلغوا الحُلم، ولبقيت النبوّة في أبناءه الذين من صلبه.

وبذلك يكون قد ردّ الله علي تسؤلات اليهود في ذلك الوقت عن توريث النبوّة لزيد الإبن المتبني، والتي أكّدها في الآيتين 4 و 5 من السورة نفسها وهو النفي الواضح لهذا الإدعاء.

” وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا” ([10])

ولنتأمل الحديث التالي الذي يبين فيه الرسول السبب في ختم النبوة:

حدّثني محمد بن بشّار حدّثنا محمد بن جعفر حدّثنا ضعبة عن فرات القزاز قال: سمعت أبا حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي قال:

“كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ وإنّه لا نبيّ بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون قالوا: فما تأمرنا قال: فوا بيعة الأول فالأول أعطوهم حقّهم فإن الله سائلهم فما استرعاهم.” ([11]

من خلال السبب المذكور في ختم النبوّة في هذا الحديث ندرك تأكيد قانون التقدّم والتطور الذي تكتسبة البشرية بمرور الأزمان، ونطّلع علي مدي الرقيّ الفكري الذي يحدث مع مجئ كل رسالة سماوية. وفي الحقيقة فإن البشرية ستغرق في الفناء والركود إذا ما توقف هذا القانون. فحتي وقت بني اسرائيل كان هناك حاجة ماسة إلي الأنبياء ليسوسوا البشر ويساعدونهم علي التحول الروحاني الذي يحتاج إلي أزمان وأزمان. ولكن مع تطور البشرية في زمن الرسول قام الخلفاء بعمل أنبياء بني اسرائيل.

 

[1]  سورة البقرة الآية 87

[2]  أنظر سنن الأولين، في الفصل الثالث من هذا البحث بعنوان التأويل.

[3]  سورة الزخرف الآية 22

[4]  -.

[5]  سورة الأحزاب الآية 40

[6]  سورة الأحزاب الآية 21

[7]  سورة الأحزاب الآيتان 38، 39

[8]  سورة الكوثر الآية 3

[9]  صحيح البخاري حديث، 5726

[10]  سورة الأحزاب، الآيتان 4 و 5

[11]  صحيح البخاري حديث 3196

أضف تعليق