لكل أمة أجل ولكل أجل كتاب- من مجهودات رندا الحمامصى

جوان 18, 2015

“قل ان دليله نفسه ثم ظهوره، ومن يعجز عن عرفانهما جعل الدليل له آياته وهذا من فضله على العالمين وأودع في كل نفس ما يعرف به آثار الله ومن دون ذلك لن يتم حجته على عباده ان أنتم في أمره من المتفكرين انه لا يظلم نفساً، ولا يأمر العباد فوق طاقتهم وانه لهو الرحمن الرحيم”. (بهاءالله – لوح أشرف)

ليس أبلغ من أدلة رسل الله ولا أتم من حجتهم. فبمجرد إعلانهم دعوتهم يضعون العالم في موضع الاختبار والامتحان أمام ميزان الله الدقيق الذي لا يخطئ. فحتى البسطاء ذوي العقول الساذجة لهم مثاقيلهم في هذا الميزان، لأن الله تعالى قد “أودع في كل نفس ما يعرف به آثار الله” ولذلك، فحتى الساذج البسيط مسئول أمام الله بالقدر الذي يفهم وبالقدر الذي يعمل.
لقد وضع الله تعالى ميزاناً واحداً جاء مع كل رسول يجدر بأهل العالم أن يركزوا أنظارهم عليه. ومع أن هذا الميزان الإلهي دقيق كل الدقة، فانه أيضاً بسيط كل البساطة… ان الله تعالى يقول بلسان كل رسول أن ميزانه لأهل الأرض هو هذا: أن دعوة الحق تعلو وتنفذ، وأما دعوة الباطل فتزهق وتنعدم، مهما اشتدت الاعتراضات في وجه الأولى، أو تكاتفت قوات الأرض مع الثانية. قال تعالى في التوراة – تثنية 18 “وان قلت في قلبك كيف تعرف كلام الذي لم يتكلم به الرب، فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب، بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه”(*). وجاء في الإنجيل – بطرس الثانية 1 – “لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسين مسوقين من الروح القدس” وقال تعالى في سورة الرعد 14 “له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال”. بل انه تعالى قضى برحمته أن لا يسمح لشخص أن يتقوّل عليه بعض الأقاويل، فكيف إذا افترى على الله دعوة كاملة “ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من احد عنه حاجزين” (سورة الحاقة 46).
فانظر كيف وفى الله بوعده كاملاً، فقد قضى بكلمته العليا على “ثوداس ويهوذا الجليلي” اللذين ادعيا الرسالة في أيام السيد المسيح – إنجيل اعمال الرسل 5 – وقضى على مسيلمة الكذّاب وغيره ممن ادعوا الرسالة ايام سيدنا محمد عليه السلام.
ومما لا شك فيه أن الدين هو غاية الله العليا لتنظيم شئون العالم، ولقد نظمها فعلا في مراحلها المتتابعة. ولا شك ايضا في ان العقيدة الدينية هي أعز ما عند الفرد والأمم في هذه الحياة الدنيا مهما شاب اعتقادهم من شوائب الأوهام والأعمال التي لا تليق بالدين. فعندما يظهر إشراق جديد، ويطلع نور رسالة جديدة يتردد الناس طويلا قبل الإقبال، ويشفقون طويلاً على ما عندهم، والحال ان الدعوة الجديدة لا تقصد إطلاقاً المساس بجوهر العقيدة وإنما تقصد تنقيتها من الشوائب التي لصقت بها بمرور الزمن !
وقد يكون الناس معذورين في ترددهم حتى يطمئنوا على الأقل، فما هي المسائل التي يثيرونها في وجه الرسالة؟
وطبيعي أن يكون موضوع الشريعة وخلودها أولى المسائل التي تثيرها الأمم عند ظهور دعوة جديدة بشريعة جديدة فيها أحكام وقوانين ونظم جديدة. أما اذا ظهر مئات المصلحين في ظل الشريعة القائمة فلن يثير ظهورهم سوى اهتمام محدود قد يتحول في بعض الحالات الى نزاع طائفي حول العقيدة وتفسير الكتاب، الا انه لا يخرج عن ظل الشريعة القائمة بين أهلها بأي حال كما حدث بين أهل الأديان. ولكن عندما تتناول الدعوة الجديدة تعديل أحكام الشريعة القائمة، فإن المسألة تخرج بأجمعها عن الدائرة المحدودة، ويرجع الناس الى كتاب الله يحاجون به صاحب هذه الدعوة الجديدة، ويتمسكون بظاهر النصوص المباركة ويعلنون أن شريعتهم أبدية لا يمكن أن يطرأ تعديل على حكم من أحكامها بأي حال، لأنها صالحة لكل زمان. فقد قال في التوراة – ملاخي 4 – “اذكروا شريعة موسى عبدي التي أمرته بها في حوريب على كل إسرائيل الفرائض والأحكام” وجاء في الإنجيل – متى 24 “الأرض والسماء تزولان ولكن كلامي لا يزول” وقال تعالى في سورة المائدة 3 “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” تمسكت كل أمة بظواهر هذه النصوص المباركة وأعلنت أن شريعتها أبدية، ولكن الواقع ان الشرائع تعددت رغم إصرار كل أمة على خلود شريعتها. فاليهود مثلاً لا يزالون يعلنون الى اليوم بحكم ظاهر نص التوراة ان شريعتهم خالدة، بينما جاءت الشريعة المسيحية، وتلتها الشريعة الإسلامية. ولكي نتصور مقدار عمق هذه العقيدة في نفوس أهلها ما علينا الا أن نرجع الى التوراة فنجد فيها في أكثر من موضع أن اليهود ينتظرون عودة ايليا من السماء وظهور المسيح وظهور النبي، ويعتقدون أن هؤلاء لا بد يظهرون. وفعلا ظهر ايليا (يوحنا، أي يحيى بن زكريا) وظهر المسيح، وظهر النبي الكريم ومع ذلك أنكروهم اليهود لسبب واحد فقط وهو أنهم جاءوا بشريعة غير شريعة التوراة.
ويرجع هذا الإعراض الى سبب واحد وهو فهم آيات الكتاب على غير ما وضعت له، وإلا فكيف نجد في كتب الله تعالى آيات صريحة عن رسالات جديدة تنزل من سماء مشيئة الله ورحمته: “ولكم ايها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها…” – ملاخى 4 – “ان لي أمورا كثيرة ايضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون ان تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم الى جميع الحق” إنجيل – يوحنا – 16، وقال تعالى “يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق” – النور 25 – ومع هذه الصراحة فان العقيدة الراسخة عند كل أمة بأن شريعتها أبدية تجعلها تلجأ الى التفاسير لتثبت من أركان هذه العقيدة، فيقول أهل الإنجيل، وهو مثال على ما يقوله أهل الأديان الأخرى، بأن المراد من “روح الحق” الذي يرشد “الى جميع الحق” هو روح القدس الذي حلَّ على التلاميذ، ولم يكن أبداً معنى الآية الكريمة أن يظهر رسول جديد من عند الله. ولكن التلاميذ الذين حلَّ فيهم روح القدس هم أنفسهم يبشرون برسول جديد وحكم جديد، فقد جاء في رسالة بولس الرسول الى العبرانيين ص 10 “لأنكم تحتاجون الى الصبر حتى اذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد، لأنه بعد قليل سيأتي الآتي ولا يبطئ”. وإيضاحاً لهذا، جاء أيضاً في رسالته الأولى لكورنثوس 13 “لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض”. فأي صراحة أعظم من هذه البيانات التي تبشر بغاية الجلاء عن رسول جديد وحكم جديد ‍!
ان دين الله، كما يوضحه “بهاءالله” في كتاب “الإيقان” هو واحد لا يتغير في جوهره، وان شريعة الله النازلة بالأحكام والقوانين والنظام كاملة في دورتها وزمانها، وان هذه الدورة الكاملة تحدد أجل الأمة الكامل “ولكل أمة أجل فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون” – سورة الأعراف 34، وان لكل أجل كتاب “وما كان لرسول أن يأتي بآية الا بإذن الله لكل أجل كتاب. يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب” – سورة الرعد 38.
هذا معنى الموعد الذي أشار إليه الإنجيل في قوله “حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد”، ولما كانت شريعة الله هى الأحكام والقوانين المنظمة للعالم فانها تتعدل بإرادة الله تبعاً لحاجة العالم في مراحل تقدمه، أما الدين في جوهره فلا يعتريه تعديل، انه أزلي أبدي، وهو الأول والآخر “ان آباءنا جميعا كانوا تحت السحابة، وجميعهم اجتازوا البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعاما واحدا روحيا، وجميعهم شربوا شرابا واحدا روحيا، فانهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح” كورنثوس الأولى ص 10 – وقال تعالى في سورة الشورى 13 “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه” فجوهر الدين واحد، ورسل الله واحد “لا نفرق بين أحد من رسله” سورة البقرة 285. فاذا قال أحدهم أنا الأول والآخر فهو حق “لأنك اذا نظرت اليهم بنظر لطيف لتراهم جميعاً ساكنين في رضوان واحد، وطائرين في هواء واحد، وجالسين على بساط واحد، وناطقين بكلام واحد، وآمرين بأمر واحد” بهاءالله – إيقان.
ويقول “عبدالبهاء” في كتاب المفاوضات: “ان شريعة الله تنقسم إلى قسمين، أحدهما الروحاني وهو الأصل والأساس وهو المتعلق بالفضائل الروحانية والأخلاق الرحمانية، وهذا القسم لا يلحقه تغيير ولا تبديل، بل هو قدس الأقداس، جوهر شرائع آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح ومحمد والباب وبهاءالله، وهو ثابت باق في جميع أدوار الأنبياء لا يتغير ولا يتبدل أبداً، لأنه حقيقة روحانية لا جسمانية، هو الايمان والعرفان والإيقان والعدالة والديانة والمروءة والأمانة ومحبة الله والمواساة في كل الأحوال والرحمة بالفقراء وإغاثة المظلومين والإنفاق على المساكين والأخذ بيد العاجزين والنزاهة والاستقامة والتواضع والحلم والصبر والثبات. والقسم الثاني من شريعة الله المتعلق بالعالم الجسماني مثل الصوم والصلاة والعبادات والزواج والطلاق والمحاكمات والمعاملات والقصاص عن القتل والضرب والسرقة والجروح… هذا القسم يتبدل ويتغير وينسخ عند ظهور كل رسول، لأن السياسات والمعاملات والعقوبات وسائر الأحكام لابد من تغييرها حسب مقتضيات الزمان”.
ومن هنا تبين أن الشريعة باقية وصالحة لدورتها وزمانها لا يستطيع بشر مهما أوتي من قوة أن يبدل حرفاً منها، حتى إذا تم ميقاتها وانحرف عنها أهلها وجاء رسول جديد أتى بشريعة جديدة تناسب العصر الذي جاء فيه والتطور الذي وصلت اليه البشرية. ولا يمكن لأحد أن يغير تلك الشريعة السابقة الا الرسول المؤيد بقوله تعالى “ما ننسخ من آية او ننسها نأت بخير منها او مثلها” – (البقرة 106). (من صفحة النور)

لقد أجمعت كافة كتب الله على انه تظهر في آخر الأيام طلعة مباركة لتوجد الخلق الجديد، ولتعيد تنظيم العالم بنظم جديد حيث تكون الأرض قطعة واحدة والمصالح العامة متشابكة. وهذه الطلعة المباركة موسومة في التوراة باسم “رب الجنود” فقد جاء في ملاخى 4 “فها هو ذا يأتي اليوم المتقد كالتنور، وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشا ويحرقهم اليوم الآتي قال رب الجنود… ها أنذا أرسل إليكم ايليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم المخوف فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن”، وموسومة في الإنجيل باسم “الرب” “يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين… هو ذا بيتكم يترك خرابا حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب” – متى 23، وموسومة في القرآن الكريم باسم “الرب” “وجاء ربك والملك صفا صفا” سورة الفجر 22، “او يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك” سورة الأنعام 158، وباسم “الله”: “هل ينظرون الا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر والى الله ترجع الامور” البقرة 210 – وباسم “الروح” “يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون الا من أذن له الرحمن وقال صوابا” – النبأ 38 – وباسم “البيّنة والرسول”: “لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيّنة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة” – البيّنة 2 – وباسم “المنادي”: “واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج” – ق 41-42 – والمنادي هو الذي ينادي للإيمان “ربنا اننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا” – آل عمران 193 – وباسم “الداعي”: “يوم يدع الداع الى شئ نكر” – القمر 6 – والداعي هو الذي يدعو للإيمان “يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به” – أحقاف 31 -، وبـ “النبأ العظيم”: “عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون” – النبأ 2 -.
وهو عند أهل الشيعة موسوم “بقائم آل محمد” و “عودة الإمام الغائب” و “الظهور الحسيني” و “المهدي وعيسى”. وعند أهل السنة والجماعة موسوم “بالمهدي وعيسى” والأحاديث الدالة على ظهور “المهدي والمسيح” كثيرة ما تركت شيئا من الأوصاف والزمان والمكان والأعمال الا ذكرته، ولكنا نكتفي بمثل واحد منها وهو ما ورد في “اليواقيت والجواهر” للسيد عبد الوهاب الشعراني من أئمة علماء أهل السنة والجماعة: “المبحث الخامس والستون في بيان أن جميع اشراط الساعة حق لا بد أن تقع كلها قبل قيام الساعة وذلك كخروج المهدي ثم الدجال ثم نزول عيسى وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها ورفع القرآن وفتح سد يأجوج ومأجوج حتى لو لم يبق من الدنيا الا مقدار يوم واحد لوقع ذلك كله” قال الشيخ تقي الدين بن ابى المنصور في عقيدته وكل هذه الآيات تقع في المائة الأخيرة من اليوم الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله – إن صلحت أمتي فلها يوم وإن فسدت فلها نصف يوم – يعني من أيام الرب المشار اليها بقوله تعالى: وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون”.
مما تقدم يعلم ان الموعود الذي تغنت بذكره الكتب المقدسة يظهر بعلاماته عندما تطلع شمس الهدى من سماء الحق الذي غربت فيه، وعندما لا يبقى من كتب الله الا رسمها، وعندما يفتح سد يأجوج الشر ومأجوج الهوى، ويعم الفساد الأرض. وهذا الموعود لا يظهر باسم “نبي” بل بالأسماء المباركة التي جاء ذكرها في كتب الله، أي باسم: “الرب، والله، والروح، والبيّنة، والرسول، والمنادِ، والداعي، والنبأ العظيم”.
أما اذا كان المراد بهذه الإشارات العالية مجرد الأخبار عن انقضاء الحياة على هذه الأرض، وموت الأحياء فكيف اذا ماتوا يرون الله آتياً، والرب وهو يجئ، او يسمعون المنادي، او يرون المكان القريب، او يشاهدون قيام الروح ! وفضلاً عن هذا فان الناس مهما امتدت آجال أفرادهم وأممهم، مسوقون الى الله، وذاهبون الى ربهم، لا أن الله هو الذي يأتي اليهم “يا أيها الإنسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه” – الانشقاق 6 – والكدح في اللغة معناه السعي، أي أنك ساع الى الله سعياً. ثم وكيف يمكن لهذه الأعين الفانية أن ترى الله وهو الغيب المنيع الذي لا يدرك؟ “ان غيب الهوية وذات الأحدية كان مقدساً عن البروز والظهور والصعود والنزول والدخول والخروج، ومتعاليا عن وصف كل واصف وإدراك كل مدرك، لم يزل غنياً في ذاته، ولا يزال يكون مستوراً عن الأبصار والأنظار بكينونته – لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير” (بهاءالله – إيقان).
واذاً فالمعنى المراد بهذه البشارات المباركة هو ان يظهر بين الخلق جوهر القدس من عالم الروح على هيكل العز الإنساني، علمه من علم الله، وقدرته من قدرته، وسلطنته من سلطنته، وجماله من جماله، وظهوره من ظهوره.

“وذكّرهم بأيام الله”((قرآن كريم سورة إبراهيم 5))
علامات يوم الله واحدة في كتب الله:
والذي يمعن النظر في الكتب الإلهية يراها ايضاً متفقة في علامات “يوم الله” حتى لتكاد تكون مذكورة بنفس اللفظ والعبارة في كل منها. فقد قال تعالى في التوراة – حجى 2 – “لانه هكذا قال رب الجنود، هي مرة بعد قليل فأزلزل السموات والأرض والبحر واليابسة، وأزلزل كل الأمم”، وفي الإنجيل الجليل – بطرس الثانية – ص 3 “لا يتباطأ الرب عن موعده كما يحسب قوم التباطؤ ولكن سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السموات بضجيج، وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها” وفي القرآن الكريم “اذا السماء انفطرت واذا الكواكب انتثرت…” “اذا الشمس كورت واذا النجوم انكدرت…” اذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت…” “اذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها”.

نهاية الليل طلوع الفجر
فهذه العلامات التي ذكرها الله تعالى في كتبه وفي اسلوبه المنيع من الاستعارة والتشبيه والمجاز، والتي تنبه الناس الى ما سوف يكتنف الحياة في ظلمة الليل البهيم عندما يختفي نور الحق، وتظلم سماء الدين على الأرض، وتتزلزل أرض القلوب بزلزال الشك والافتتان، وتجمد بحور العلم والحكمة وتتكدر شمس الحقيقة، وتتكور فيذهب ضوءها، وتسقط أنجم الهداية، وتضطرب أحوال العالم، وتعم الفوضى وتستعر نيران الحروب، ويشتد الكرب، وتضيع قيم المبادئ الروحية، وتتدهور الأخلاق، ويسود سلطان المادة، ويشتد تنازع الأمم، وتنحل العلاقات، ولا يعود للقانون حرمة، ولا للدين مكانة في القلوب – عندما تظهر كل هذه العلامات، والتاريخ يحدثنا كيف اشتد ليلها منذ القرن الثامن عشر – يطلع فجر الله الموعود، ويبدأ الناس تدريجيا يزيحون عن صدورهم كابوس الليل المخيف كلما امتد خيط النور.
والعالم يحس اليوم أكثر مما أحس في أي يوم من أيامه السابقة بأن النضال الشديد القائم بين طبقاته وشعوبه يختلف في طبيعته كل الاختلاف عن نضاله في الماضي. فقد تركز نضاله اليوم حول تقرير الحقوق العامة للفرد والجماعة والدولة، وحول إيجاد النظم الجديدة اللائقة بعهده الجديد حيث الأرض كلها قطعة واحدة، وحيث تشابكت المصالح بفضل العلم والكشف والاختراع، وبحيث أصبح عنوان الحياة اليوم هو “وحدة العالم الإنساني”. فهل كانت كل هذه الاتجاهات الغريبة على تاريخ العالم لتستمد حياتها من الهام فكر بشري؟ كلا، بل تستمده من الهام شامل عام طلع من أفق مشيئة الله عندما أشرقت شمس الموعود، والا فمن ذا الذي يستطيع أن يدعي بأن أي مرحلة من مراحل تطور العالم تحققت عن طريق غير طريق السماء ونفذت بقوة غير قوة دين الله، أو من ذا الذي يستطيع أن يقول بأن المبادئ التي يناضل من أجلها العالم اليوم بأجناسه وملله وعقائده وألوانه، هي من وحي البشر ! وعن قريب، عندما تصفو الروح، يدرك أهل الأرض جلال يوم الله الذي أشرق بظهور “الباب و بهاءالله” عن أفق إرادة الله، ويدركون عظمة تعاليم الله الجديدة التي خلقت السموات الجديدة والأرض الجديدة: “لأني ها أنذا خالق سموات جديدة وأرضا جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال، بل افرحوا وابتهجوا فيما أنا خالق…” توراة اشعيا 65 – “ولكنا بحسب وعده ننتظر سموات جديدة وأرضا جديدة يسكن فيها البر” إنجيل – بطرس الثانية 3 – “يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار” – إبراهيم 48 – “وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون” – الزمر 69 -.(من صفحة النور)

وهذه السموات الجديدة والأرض الجديدة هي تعبير عن النظم البديع الجديد الذي يحتاجه العالم، والذي يتم به الخلق الجديد، فيرى العالم غير العالم والسموات والأرض غير الأرض. وهي التي بظهورها يتأسس ويتحقق السلام على الأرض الذي هو اسم من أسمائه الحسنى، فقد قال تعالى في التوراة – اشعيا 9 – “لانه يولد لنا ولد، ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً آلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام لا نهاية” وفي القرآن الكريم “والله يدعو الى دار السلام” – يونس 25 -.
فهذا وعد الهي بتأسيس وتحقيق السلام على الأرض ولا يكون الا بظهور الموعود في يوم الله. وقد ذهب المسيحيون الى القول بأن “رئيس السلام” هو السيد المسيح في مجيئه الأول، ولكن السيد المسيح صرح بأنه ليس “رئيس السلام” الموعود: “جئت لألقي ناراً على الأرض فماذا أريد لو اضطرمت.. أتظنون اني جئت لأعطي سلاماً على الأرض، كلا أقول لكم بل انقساماً” – لوقا 12 – نعم قال السيد المسيح لتلاميذه “سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم” – يوحنا 14 – وقال تعالى في القرآن الكريم “يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة” – البقرة 208 – فهذا السلام سلام نسبي اقتصر على الذين آمنوا برسالات الإنجيل والقرآن. وحتى هذا السلام النسبي لم يتحقق بين أهل الملة الواحدة. فالحروب والمنازعات بين الفرق المسيحية امتدت طوال تاريخها. وكذلك الحروب والمنازعات بين الفرق الإسلامية امتدت طوال تاريخها. ولكن “بهاءالله” يدعو الناس جميعهم على اختلاف عقائدهم وأجناسهم وألوانهم الى السلام الأعظم الذي وضع قواعده وأحكامه. وعلى هذا الجيل أن يرجع اليها ليخلد لنفسه ذكرا في التاريخ بين مؤسسي سلام الله على الأرض.
يوم الله محدد بالتاريخ في كتب الله
1 – في التوراة والإنجيل – بالتاريخ القمري
جرت التوراة والإنجيل على ان اليوم معتبر بسنة “فتحمل اثم يهوذا أربعين يوماً قد جعلت لك كل يوم بسنة” توراة – حزقيال 4، وهذه هي القاعدة المنصوصة في تحديد المواعيد في التوراة والإنجيل.
فلننظر الى هذا الميعاد من التوراة. جاء في دانيال ص 12 “وقال للرجل اللابس الكتان من فوق مياه النهر الى متى انتهاء هذه العجائب فسمعت الرجل اللابس الكتان الذي من فوق مياه النهر اذ رفع يمناه ويسراه نحو السموات وحلف بالحي الأبدي انه الى زمان وزمانين ونصف زمان، فاذا تم تفريق أيدي الشعب المقدس تتم كل هذه”. وتكررت عبارة “زمان وزمانين ونصف زمان” في الإنجيل – رؤيا 12، ثم فسرتها الرؤيا بثلاثة أيام ونصف كما جاء في الإصحاح 11، فتفسير الزمان والزمانين ونصف هو “ثلاثة أيام ونصف” أي 42 شهراً والشهر 30 يوما بالحساب القمري فيكون مجموعها 1260 يوما أي 1260 سنة. ففي سنة 1260 هجرية ظهر “الباب” الذي جاء يبشر بـ “بهاءالله”.
وجاء في الإنجيل – رؤيا 11 “ثم أعطيت قصبة شبه عصا، ووقف الملاك قائلا لي قم وقس هيكل الله والمذبح والساجدين فيه، وأما الدار التي هي خارج الهيكل فاطرحها خارجاً ولا تقسها لأنها أعطيت للأمم وسيدوسون المدينة المقدسة اثنين وأربعين (42) شهراً. وسأعطي لشاهدي فيتنبأن ألفا ومائتين وستين يوما (1260) لابسين مسوحا”. وتفسير هذه الرؤيا هو انه في أوائل القرن السابع الميلادي الذي فتحت فيه أورشليم ظل قدس الأقداس، أي البيت الذي بناه سيدنا سليمان، محفوظاً حسب الظاهر، وأما الصحن الخارجي فقد أخذ وأعطي للأمم – أي الأمم العربية – (وسيدوسون المدينة المقدسة 42 شهراً) أي يستولون على أورشليم 42 شهراً أي 1260 يوماً أي 1260 سنة (وسأعطي لشاهدي فيتنبآن 1260 يوما) توضيح لهذه العملية الحسابية. وفي سنة 1260 هجرية ظهر “الباب”.
2 – تحديد الميعاد بالتاريخ الميلادي في التوراة
جاء في دانيال ص 8: “فسمعت قدوسا يتكلم يسأل قدوساً آخر الى متى الرؤيا من جهة المحرقة الدائمة ومعصية الخراب لبذل القدس والجند ومدوسون، فقال الى ألفين وثلثماية (2300) صباح ومساء فيتبرأ القدس…”.
وتفسيرها انه من تاريخ صدور فرمان ارتحشستا بتجديد بيت المقدس الى يوم ولادة السيد المسيح هو 456 سنة (عزرا ص 7). فاذا طرحنا 456 من 2300 يكون الباقي 1844 ففي 1844 ميلادية المطابقة لسنة 1260 هجرية ظهر “الباب”.
3 – تحديد ميعاد الظهور من القرآن الكريم:
في كل دورة من دورات رسل الله كان الدين منوطاً من بعد الرسول الإلهي بنفوس اختارهم الله لتدبير الأمر من بعده. وهؤلاء كان عددهم في كل دورة اثنى عشر (12) ففي الدورة الموسوية كان الأسباط الاثنى عشر، وفي الدورة المسيحية كان الحواريون (التلاميذ) الاثنى عشر، وفي الدورة الإسلامية كان الأئمة الاثنى عشر من أهل البيت، وجاء في الحديث الشريف “اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي” وكان آخر هؤلاء الأئمة الاثنى عشر الامام محمد بن حسن العسكري سنة 260 هجرية: قال تعالى في سورة السجدة 5 “يدبر الأمر من السماء الى الأرض ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون” وعلى ذلك تكون 260 هي السنة التي تم فيها تدبير أمر الله من السماء الى الأرض مبتدئة بظهور الرسول عليه السلام ومنتهية بقيام آخر امام من العترة الطاهرة وهو الامام محمد بن حسن العسكري. ثم يأتي عروج الأمر الى الله في يوم مقداره ألف سنة. فاذا أضفنا مدة التدبير (260) الى يوم العروج (1000) أي 260 + 1000 = 1260 وهي السنة الهجرية التي ظهر فيها “الباب”… كم تطابق كتب الله بعضها بعضا، وما أبدع بشارتها للناس في لحن السماء !
تأويل الكتاب
وكما أجمعت كتب الله على البشارات والعلامات وميعاد ظهور يوم الله، كذلك أجمعت على ان كل آياته المشيرة الى هذا اليوم مكنونة مستورة الى وقت النهاية، فهي من المتشابهات التي قال تعالى عنها في سورة آل عمران 7 “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله…”
وقد أخذ الله على نفسه عهداً أن يبين أسرارها ويظهر مكنوناتها على لسان من يبعثه في اليوم الموعود. والذين فسروا كتب الله كانوا على حق عندما قالوا عند كل تفسير ان الله ورسوله أعلم، فلم يقطع واحد منهم بأن تفسيره هو المقصود بكلام الله. ولهم كل الحق فيما ذهبوا اليه لأن الله وحده هو العالم بتأويل كتابه وأنه وحده هو الذي يرسل من يظهر مكنونات آياته “عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً الا من ارتضى من رسول” – الجن 26 – ولذلك قال تعالى في التوراة – دانيال 12 – “اذهب يا دانيال لأن الكلمات مخفية ومختومة الى وقت النهاية”، وفي الإنجيل – يوحنا 6 – “اعلموا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان لأن هذا الله الآب قد ختمه”. وفي القرآن الكريم – القيامة 19 – “ثم ان علينا بيانه” وثم معناها العطف مع التراخي. وأيضا في سورة الأعراف 53 – “هل ينظرون الا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق”.
فاذا لم يكن الباب المبشر بـ “بهاءالله” هو المنعوت بقوله تعالى “عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً الا من ارتضى من رسول” كيف كانت تظهر معاني آيات الله وتتجلى مكنوناتها التي ظلت مخفية مستورة طوال الأحقاب !

“فانظروا العالم كهيكل إنسان انه خلق صحيحا كاملا فاعترته الأمراض بالأسباب المختلفة المتغايرة وما طابت نفسه في يوم بل اشتد مرضه بما وقع تحت تصرف أطباء غير حاذقة… وان طاب عضو من أعضائه في عصر من الأعصار بطبيب حاذق بقيت أعضاء أخرى في ما كان… كلما أتى ذاك السبب الأعظم وأشرق ذاك النور من مشرق القدم منعه المتطببون وصاروا سحاباً بينه وبين العالم لذا ما طاب مرضه وبقي في سقمه الى الحين”. بهاءالله – لوح الملكة فكتوريا
(من صفحة النور)

وقف العالم ممزقاً موزعاً بين قرنى التاسع عشر والعشرين تاركاً للأجيال المقبلة تقدير أشد محنة اجتازها فى تاريخه الطويل. وإن بلغت محنة الإنسانية أوجها في القرن التاسع عشر، فهذا لم يعن بحال انحسارها فى القرن العشرين كل ماهنالك أن الآلام المروعة التى تحملتها الإنسانية طوال العصور الأولى والوسطى تجمعت وكوّنت ركاماً هائلاً في القرن التاسع عشر رغم التنفس النسبي الذي تنفسته الإنسانية في أجزاء منها بقيام بعض حركات الإصلاح المحلية. فالحروب على مختلف أنواعها استمرت الى العصور الوسطى متمادية فى النخريب والإفناء آتية على الحرث والنسل دون وازع ولا ضمير ولهيبها يشتد يوماً بعدد يوم لهول الوقود الجديد الذي يطرحه في آتونها دواماً عامل تطور الفكر الشيطانى بكل مخترعاته الجهنمية. ولذلك نقدم له عرضاً مختصراً لهذه المراحل وكيف تحملت النضال القاسي بين تطور الحياة والقوى المناهضة لهذا التطور.
ففي القرن الرابع عشر ترجم “ويكلف” – مات سنة 1384 – التوراة الى اللغة الإنكليزية فارتاعت الكنيسة لهذا العمل وعدته اعتداء صارخاً على حرمة كتاب الله.
وفي القرن الخامس عشر اخترع جوتمبرغ الألماني – مات سنة 1468 – المطبعة ولعبت دورها الخطير في التطور الفكري العام، وبواسطتها نشر الكتاب المقدس والمخطوطات القديمة باللغات المختلفة، وخرجت الأسرار من صدر الكنيسة الى أيدي الناس مما أثار سخط الكنيسة ومحاربتها لهذه البدعة.
وفي نفس هذا القرن اكتشفت أمريكا (1492) فتمت نظرية كروية الأرض.
وفي القرن السادس عشر قام لوثر – 1483 – 1546 – بحركته وجرت الدماء أنهاراً بين الكاثوليك والبروتستانت.
وفي القرن السابع عشر اخترع “جاليليو” – 1564 – 1642 – التلسكوب وأتى بنظريته الجديدة التي قضت على النظرية البطليموسية القديمة. وكادت الكنيسة تقضي عليه بالموت حرقاً لولا مسايرته لها، فاكتفت بسجنه ثلاث سنوات.
وفي نفس القرن ايضا تأسس وثبت نظام الحكم الدستوري في إنكلترا عقب ثورة 1688. وفيه ايضا اندلع لهيب الحرب الدينية في المانيا المعروفة بحرب الثلاثين، 1618 – 1648.
وظهرت في القرن السابع عشر ايضا نظريات جديدة تقول بضرورة قبول الشيء بعد التجربة، وعدم الأخذ بالشيء الا بعد التحقق وقبول العقل له. وعرفت هذه الحركة في التاريخ باسم “نزعة الشك” وكان على رأسها فرنسيس بيكون 1561 – 1625، وديكارت 1596 – 1650 وغيرهما.
وفي القرن الثامن عشر حدثت الثورة الفرنسية التي هدفت الى حرية الفرد السياسية والدينية وذلك في سنة 1793 بزعامة فولتير وجان جاك روسو وغيرهما. وفي نفس القرن (1783) استقلت الولايات المتحدة ولعبت دورها في محاربة الرق في أمريكا – وتلعب دورها اليوم على مسرح الحياة العامة.
وفي القرن التاسع عشر قام لابلاس الفرنسي – مات سنة 1827 – يقول بنظرية سقيمة ترمي الى الاستغناء عن الاعتقاد بالله.
وفي نفس القرن وضع داروين كتابه في أصل الأنواع 1859، وتلاه سبنسر فعمم نظرية التطور على الأخلاق والعادات والى جانب هذه الحركات الفكرية قامت حركة العمال في أوربا لتأمين حياتها وخاصة بعد ظهور الماكينات والآلات الحديثة التي ابتكرتها النهضة الصناعية ورأى العمال فيها تهديدا لهم، وبرزت النظريات الاقتصادية كالاشتراكية وغيرها.
وظهرت الحركة النسوية في أمريكا وأوربا، واتخذت طابع العنف في إنكلترا وطالبت النساء بحقوقهن كاملة ومساواتهن بالرجال.
من هذا يتبين انه بينما كان الغرب يتجه نحو التقدم العلمي والصناعي والفكري كان يتعثر في الناحية الروحية، فان ما جرى فيه اتخذ في أغلب حالاته صور العنف والصراع.
على ان حالة الشرق كانت أقل بكثير من حالة الغرب، فلم يكن في الشرق نهضات في القرون الوسطى، وأخذت روحانيته التي كانت سبباً في منعته وعزته تتضاءل حتى زالت، فانتشر الفساد في ربوعه وعمّت الفوضى، وضاعت منه العزة والكرامة، وانعدم القانون، وسيطرت عوامل الاثرة والأنانية، واختفى كل نور للرجاء. واننا نترك للتاريخ يتحدث عن كل هذا.
فهذه الأمراض والعلل التي فتكت بهيكل العالم وأزمنت لا بد لها من طبيب حاذق لعلاجها. ولكم تحركت عقول الفلاسفة والحكماء والملوك والوزراء وأرادت تحقيق الإصلاح بين شعوبها على الأقل، وذلك عن طريق الدين، فحاولت أن تبتكر ديناً يكون أسهل وأقرب الى الأذواق والعقول، وأليق بالعصر ومقتضياته. وهذه قصص المزدكية في أيام كسرى ( قباز ) وسعد الدولة اليهودي واورغون خان المغولي في ايران، وعلاء الدين الخلجي في الهند، والثورة الفرنسية، فقد حاولوا الإصلاح عن طريق تشريع دين سهل مقبول، ولكنهم فشلوا فيما حاولوه. لأنه فضلاً عن قصور العقل البشري مهما بلغ من نضج، وانه هو ذاته يحتاج الى الإصلاح، فان الإصلاح الشامل لا يكون الا من فيض السماء بظهور الطبيب الحاذق الذي يعرف الداء والدواء.
“فانظروا العالم كهيكل إنسان انه خلق صحيحا كاملا فاعترته الأمراض بالأسباب المختلفة المتغايرة وما طابت نفسه في يوم بل اشتد مرضه بما وقع تحت تصرف أطباء غير حاذقة… وان طاب عضو من أعضائه في عصر من الأعصار بطبيب حاذق بقيت أعضاء أخرى في ما كان… كلما أتى ذاك السبب الأعظم وأشرق ذاك النور من مشرق القدم منعه المتطببون وصاروا سحاباً بينه وبين العالم لذا ما طاب مرضه وبقي في سقمه الى الحين”.بهاءالله – لوح الملكة فكتوريا

ليس القصد من هذه الورقات ذكر التاريخ مفصلاً ولكن المقصود إلمامة عابرة لا بد منها. ففي أول محرم سنة 1235هـ الموافق 20 اكتوبر 1819، ولد في شيراز في جنوب ايران السيد علي محمد الذي لقب نفسه بـ “الباب” عند إعلان دعوته.
وكان من السلالة النبوية اذ ينحدر أباً وأماً من فاطمة الزهراء ومن ذرية الإمام الحسين. وكان لا يزال في دور الفطام عندما توفي أبوه فكفله خاله. واقتصر تعليمه وهو بين الخامسة والسادسة على مبادئ القراءة والتعليم الأولى العادي للأطفال، وعندما بلغ الخامسة عشر اشتغل في التجارة مع خاله في شيراز، ثم مع خاله الثاني في بوشهر على الخليج الفارسي. وفي الثانية والعشرين تزوج وولد له ولد توفي صغيراً قبل اعلان دعوته بسنة. وتتجلّى روح الفداء في صلاته على جثمان ولده في مناجاته التي يقول فيها “إلهي إلهي امنحني فضل سفك دمي وفداء حياتي في سبيلك، واجعله يروي وينبت بذور دينك، واشمله بقوتك السماوية حتى ينمو ذلك البذر الجديد في قلوب الرجال، وينتعش ويعظم الى أن يصير شجرة كبيرة وتجتمع وتستظل الأمم والأقوام تحت ظلها. فأجب يا إلهي دعائي، وأتمم مراد قلبي، إنك أنت القوي الكريم”.
ولما بلغ الخامسة والعشرين أعلن انه “الباب” الذي اختاره الله ليبشر الناس بيوم الله الموعود الذي سوف تشرق شمسه بطلوع “من يظهره الله” وكان يشير الى بهاءالله.
ولقد اجمع المؤرخون على اختلاف أجناسهم وميولهم على سمو أخلاقه وعالي صفاته. فقد جاء في كتاب “السيد علي محمد الباب” لنقولاس “أن الباب كان كثير الصمت مع أن هيكله الجميل ونور محياه وسكون ذاته كان يجذب أنظار مواطنيه. ومن صغره كانت المسائل الدينية تجذبه بقوة. وفي سن 19 كتب أول كتاب له وهو الرسالة الفقهية واظهر فيها تقواه…” وجاء في كتاب لمحات عن الحياة في ايران للسيدة شيل “كان الباب وسيم الطلعة حليماً مهاباً ساكناً، زائد الفصاحة والبلاغة، وسريع الكتابة” وجاء في كتاب “العقيدة والشريعة في الإسلام” للمستشرق اجنتس جولد تسيهر المطبوع بدار الكاتب المصري بالقاهرة سنة 1946 بالصفحة 241 “وقد شهد له أصحابه بسبب مواهبه الفائقة وحماسته المتقدة بأن العناية الإلهية قد اصطفته لغاية سامية”.
وأول من آمن بدعوته كان شاباً يدعى ملا حسين بشروئي وكان ممن تلقوا العلم من الشيخ احمد الاحسائي ومن بعده السيد كاظم الرشتي الذين كانا يعدان النفوس لظهور الموعود. ولم يكد يمضي اربعون يوماً حتى بلغ عدد من آمن بدعوة “الباب” 18 شخصاً لقّبهم بحروف “الحي” وذلك بحساب الجمل (ح=8 + ي=10 = 18). وجميع هؤلاء كانوا من العلماء الذين تفرقوا للبحث عن الموعود، وأقبلوا اليه بطرق متنوعة، منهم بالسعي، ومنهم بالرؤيا، ومنهم بالإلهام. وكان من بين هؤلاء الحروف سيدة هي الأولى من بنات جنسها التي أقبلت الى الدعوة الجديدة، والوحيدة ايضا بين حروف الحي التي لم تتشرف بمحضر “الباب” ولقد لقّبت بـ “قرَّة العين” والطاهرة. وكانت دون الثلاثين، شاعرة، سليلة بيت عريق في العلم، ذات ذكاء نادر وبلاغة ساحرة، وحجة ناطقة حتى وصفها البروفيسور براون المستشرق بقوله: (إن ظهور امرأة مثل الطاهرة في أي بلد وفي أي عصر هي حالة نادرة او حدث نادر، لكن ظهورها في بلد مثل إيران فهو أعجوبة، لا بل انه معجزة تماما. ومثلما كانت في عفتها وجمالها الرائع ومواهبها العقلية الفذة وفصاحتها المتوهجة وايمانها الشجاع واستشهادها المجيد، كان وقوفها نادراً ليس لها مثيل بين نساء بلادها وبقيت ذكراها خالدة الى الأبد. إن كان ليس لدين الباب من إدعاء عظيم، فيكفيه انه أظهر بطلة مثل قرة العين “الطاهرة”)
وبعد أن كمل عدد أتباعه 18 توجه “الباب” الى الحجاز لأداء فريضة الحج، فوصل مكة المكرمة في ديسمبر سنة 1844، وأعلن دعوته على جم غفير من الحجاج. ثم عاد الى بوشهر وكانت دعوته قد ذاعت وشاعت في البلاد بسبب ما قام به هؤلاء الأتباع من النشاط والقوة والحماس في إبلاغها الى الأقاليم التي تفرقوا فيها عملاً بتعليمات سيدهم، ومن جهة أخرى كان سريان الدعوة، وإقبال الناس عليها سبباً في إثارة سخط رجال الدين من أهل الشيعة، فقد رأوا فيها خطراً شديداً يهدد العقائد والنظم القائمة في البلاد، ويقلل من سلطانهم، ويذهب بنفوذهم، فتقدموا الى حسين خان حاكم فارس وكان مستبداً ومتعصباً، وأقنعوه بضرورة وضع حد لهذه الحركة، وقمع هذه البدعة. ومن ثم أخذت الأحوال تضطرب، وحوادث الاضطهادات والتعذيب والمحاكمات والسجن تتوالى على “الباب” وأتباعه، على أن وسائل القمع التي ارتكبت، مع ما اتسمت به من طابع القسوة والوحشية النادرة، لم تنجح في وقف تيار الدعوة ولا في تخويف أتباعها، بل بالعكس ضاعفت من اشتعال النار في قلوب هؤلاء الأتباع، وجعلتهم يتسارعون لنيل السبق في سبيلها، مما جعل السلطات تفكر في التخلص من رأس الحركة عسى بموته تهدأ الأمور.
ففي 9 يوليو 1850م اقتيد “الباب”، وكان عمره إذ ذاك 31 سنة ومعه أحد أتباعه “أقا محمد علي” الذي رجا وألح على سيده أن يقبله معه، الى ميدان تبريز الحربي حيث أعدت فرقة من الجنود لتنفيذ حكم القتل.
ثم ربطوهما بالحبال في وضع كان رأس أقا محمد علي على صدر سيده وعلقوهما أما عشرات الآلاف من الجماهير المتفرجة. فلما كان الظهر صدر الأمر بإطلاق النار وأخذوا الجثتين وطرحوهما في خندق، ثم تمكن البابيون بعد ذلك من الحصول على هاتين الجثتين وإخفائهما سنوات حتى سمحت الأحوال بدفنهما في سفح جبل الكرمل.
واتفق المؤرخون من محبين وأعداء على حصول أعجوبة وقت تنفيذ إعدام “الباب”. فان الفراش باشى الذي ذهب لإحضاره ورفيقه من غرفة السجن وجده مشغولا بإملاء بعض كتابات على أحد أتباعه. فلما أصر الفراش باشى على اقتياده قال ان عمله لم يتم بعد، وإنه لا توجد قوة في الأرض تحول بينه وبين إتمامه، وفي طريقه الى الساحة تقدم اليه سام خان قائد الفرقة المنوط بها التنفيذ، وكان مسيحياً، ورجا من “الباب” أن يصفح عنه في عمل لا يد له فيه، وأجابه “الباب” بأنه إن كان صادقاً فإن الله سيعفيه من عمله.
فلما ربطوهما وأطلق الجند رصاصهم، وأنكشف الدخان، كانت دهشة الجماهير بالغة عندما رأوا الحبال مقطعة ورفيق “الباب” واقفاً، أما “الباب” فلم يكن موجوداً، فأخذتهم حمى الذهول وبحثوا عنه فوجدوه في نفس غرفة السجن يملي على ذلك التابع. فلما جاءوا ليقتادوه الى الساحة قال الآن أتممت عملي، ولكم أن تفعلوا بي ما تشاؤون. وهناك أعادوا رباطهما ورفض سام خان إصدار الأمر لفرقته بإطلاق الرصاص مرة ثانية، فأحضروا فرقة أخرى ونفذت حكم الإعدام.
ويقدر المؤرخون عدد من قتلوا من البابيين بالتعذيب والتنكيل يربو على الثلاثين ألفاً في سنوات معدودة. ويجمع المؤرخون أيضاً على أن ما حل بالبابيين والبهائيين، يعتبر مصدراً جامعاً حافلاً يستمد منه مؤرخو الأجيال قصة الاضطهاد الديني في التاريخ.
كتابات “الباب”
وكانت كتابات “الباب” كثيرة أتم معظمها وهو بين جدران السجون في القلاع الخربة. فبجانب كتابه “البيان” الذي شرّع فيه الأحكام اللازمة لدورته القصيرة، يوجد “قيّوم الأسماء” و “صحيفة بين الحرمين” و “كتاب الروح” و “الخصائل السبعة” و “الدلائل السبعة” وتفسير سورة “الكوثر” وتفسير سورة “والعصر” وغيرها من الرسائل والألواح للشاه والعلماء. وتركزت كلها حول رفع الأوهام والخرافات التي كانت سائدة بقوة، وإزالة الفروق الدينية واصلاح الحالة الاجتماعية التي بلغت من الفساد حداً لا يتصوره عقل. وأما رسالته الأساسية فقد كانت في التمهيد لظهور “بهاءالله” الذي كان يشير اليه في كتبه ورسالاته بإشارة “من ي

ظهره الله”.

ولد حسين علي الملقب فيما بعد بـ “بهاءالله” في بلدة نور(1) في اقليم مازندران بايران في 2 محرم 1233هـ (12 نوفمبر 1817) وكان أبوه ميرزا عباس النوري وزيراً في الدولة. فلما توفي كان “بهاءالله” في الثانية والعشرين ورفض منصب الوزارة وانصرف الى تدبير شئون اخوته وأخواته واملاك العائلة الواسعة. ولم يتلق الا قسطاً يسيراً من التعليم في المنزل.
ولما أعلن الباب دعوته في 1260هـ (1844م)، اعتنقها “بهاء الله” ومن ثم قام على ترويجها وإعلانها بكل حماس وقوة. وبعد استشهاد “الباب” صار “بهاءالله” مركز الحركة ومرجعها فتركزت الاضطهادات بدورها فيه. فسجن في سجن طهران المظلم، ثم نفي الى بغداد، واضطرت الحكومة الإيرانية، أمام تيار نفوذه المتدفق، أن تتفق مع الحكومة التركية التي أمرت بنفيه الى استنبول. وصدر أمر النفي في 21 إبريل سنة 1863. ففي هذا اليوم الشديد الذي أحاط فيه البلاء من كل جانب، أعلن “بهاءالله” نفسه انه هو الموعود الذي بشَّر به “الباب” ومكث في اعلان بشاراته لأحبائه الى يوم 2 مايو، أي 12 يوماً، وكان ذلك في حديقة نجيب باشا خارج بغداد(2) أثناء الاستعداد للسفر الى منفاه الجديد. وقد عرفت هذه الأيام بعيد الرضوان الذي يحتفل به البهائيون من كل عام، ومن ذلك التاريخ أصبحت “البابية” تعرف باسم “البهائية”(3).
وكان وصول بهاءالله وعائلته وجمع من أحبائه الى اسطنبول بعد رحلة قاسية مريرة دامت حوالي أربعة شهور.
ولم يمكث “بهاءالله” في اسطنبول الا أربعة شهور أخرى، بعدها صدر الأمر بنفيه ومن معه الى أدرنه، وكانت الرحلة قصيرة ولكنها كانت أشد قسوة بسبب البرد والثلوج وقلة الطعام والملبس.
مكث “بهاءالله” أربعة سنوات ونصف في أدرنه في كرب وبلاء لم يمنعه من اعلان دعوته، ولا منعت سطوة الحكومة من نفوذها. فأرادت أن تتخلص منه وأتباعه نهائياً، وأصدرت أمرها بنفيهم الى مدينة عكا في فلسطين، حيث الهواء والأمراض والسجن لن تلبث أن تقضي عليهم. ويعطينا المقتطف الآتي من لوح “بهاءالله” الى شاه العجم صورة واضحة عما أصابه وما سوف يصيبه: “يا ملك قد رأيت في سبيل الله ما لا رأت عين ولا سمعت أذن. قد أنكرني المعارف وضاق علي المخارف، قد نضب ضحضاح السلامة واصفر ضحضاح الراحة كم من البلايا نزلت وكم منها سوف تنزل، أمشي مقبلاً الى العزيز الوهاب وعن ورائي تنساب الحباب، قد استهل مدمعي الى أن بلَّ مضجعي. وليس حزني لنفسي، تالله رأسي يشتاق الرماح في حب مولاه، وما مررت على شجر الا وقد خاطبه فؤادي يا ليت قطعت لاسمي وصلب عليك جسدي في سبيل ربي، بل بما أرى الناس في سكرتهم يعمهون ولا يعرفون، رفعوا أهوائهم ووضعوا إلههم كأنهم اتخذوا أمر الله هزواً ولعباً ويحسبون أنهم محسنون. وفي حصن الأمان هم محصنون، ليس الأمر كما يظنون، غدا يرون ما ينكرون، فسوف يخرجوننا أولوا الحكم والغناء من هذه الأرض التي سميت بادرنة الى مدينة عكاء، ومما يحكون انها أخرب مدن الدنيا وأقبحها صورة وأردئها هواء وأنتنها ماء، كأنها دار حكومة الصدى لا يسمع من أرجائها الا صوت ترجيعه… تالله لو ينهكني اللغب ويهلكني السغب، ويجعل فراشي من الصخرة الصماء، ومؤانسي وحوش العراء، لا أجزع وأصبر كما صبر أولوا الحزم وأصحاب العزم بحول الله مالك القدم وخالق الأمم. وأشكر الله على كل الأحوال، ونرجو من كرمه تعالى بهذا الحبس عتق الرقاب من السلاسل والأطناب، ويجعل الوجوه خالصة لوجهه العزيز الوهاب…”
وفي 31 أغسطس سنة 1868 وصل وعائلته وفريق من أتباعه الى عكا ودخلوا السجن حيث كبار المجرمين من أنحاء تركيا. وكانوا 84 شخصاً بين أطفال وكبار وفشت فيهم الملاريا والدوسنطاريا. وكانت الأوامر مشددة بمنع الدخول والخروج. فكان أتباعه يأتون من إيران وغيرها سيراً على الأقدام ليهنأوا بنظرة واحدة من بعيد الى نافذة “بهاءالله” التي كان يطل منها عليهم في بعض الأحوال، ثم يعودون الى أوطانهم باكين نائحين.
ثم نقل بعد سنتين الى منزل صغير بجوار السجن، وبعد مضي تسعة سنوات في سجن عكا، انتقل الى قصر المزرعة فإلى قصر البهجة خارج البلدة بعدة فراسخ، وهناك نعم براحة وحرية نسبية. وفي سنة 1890م توجه “بهاءالله” الى جبل الكرمل وتردد عليه أربعة مرات وكان يرفع خيمته فوق ذلك الجبل المذكور في التوراة.
ولقد تحدث المؤرخون ومنهم بروفيسور براون المستشرق، وتحدث العظماء والوزراء والعلماء الذين تشرفوا بمحضره في السجن وفي البهجة بأن “بهاءالله” لم يكن يوماً سجيناً، بل كان سلطانه وهيبته وجلاله، ونفوذه، وعظمة خلقه، وغزير علمه وحكمته، وعميم فضله ورحمته، ومحبته العميقة للجميع – كانت كل هذه المحامد والنعوت ترفعه أمام الجميع من أعداء وأحباء الى مرتبة تحن لها الملوك، بل تحسده عليها.
وفي الساعة الثالثة والنصف من صباح يوم 29 مايو سنة 1892 صعدت روحه الى بارئها وهو في الخامسة والسبعين من عمره. ولم يرو التاريخ مثالا لتلك المراثي العالية الزاخرة التي تنافس العلماء والكبراء في إلقائها بين يدي ابنه الأكبر “عبدالبهاء”. وكان آخر ما صدر من قلم “بهاءالله” “لوح العهد” الذي فيه عيَّن “عبدالبهاء” من بعده مروجاً لتعاليم الله، والذي به حفظ أتباعه من الانقسام الذي حدث في جميع الأدوار السابقة.

كتابات “بهاءالله”
وتعتبر كتابات “بهاءالله” من الكثرة ما تستوقف النظر. وقد تمت كلها وهو في سجنه المتنقل، وبين موج البلايا المتتالي:
كتاب “الإيقان ” في شرح أسرار الكتب الإلهية.
كتاب “الأقدس” الحامل للشريعة والأحكام البهائية.
الاشراقات، الطرازات، البشارات، التجليات، الكلمات الفردوسية، الكلمات المكنونة، سورة الهيكل…
أما ألواحه الى الملوك فهي:
سورة الملوك – خطابا لملوك الشرق والغرب.
لوحه الى الملكة فكتوريا، لوحان الى نابليون الثالث، لوح الى اسكندر الثاني قيصر روسيا، لوح الى وليم الأول ملك بروسيا، لوح الى فرنسوا جوزيف إمبراطور النمسا، لوح الى شاه العجم، لوح الى السلطان عبد العزيز، لوح الى علي باشا الصدر الأعظم (رئيس وزراء الإمبراطورية العثمانية).
أما ألواحه الى العالم الديني فهي:
لوح الى البابا بيوس التاسع، لوح البرهان، لوح ابن الذئب لعلماء الإسلام، عدا ألواحه العديدة الى اليهود والزردشتيين وسائر الملل الأخرى.
وبجانب هذه، لوح الدنيا، لوح المقصود، لوح الحكمة، لوح الكرمل، وكلها عامة، هذا عدا آلاف الألواح الى أحبائه.
واشتملت ألواحه الى الملوك على إنذارات لهم، وتحققت كلها، فخرج الملك من يد الأسرة القاجارية في إيران، وقتل السلطان عبد العزيز نفسه وتغيرت الأحوال في تركيا، وحاطت الذلة بنابليون الثالث، وذهب الملك من يد أسرة هابسبورج بالنمسا، واكتوت المانيا بالنار والدمار مرتين كما أنذرها، وتضعضع نفوذ معارضيه، وزال سلطان أعدائه في الوقت الذي أخذت رسالته ترتفع وتثبت.
رسالة بهاءالله
وتدور رسالة بهاءالله حول تحقيق البشارات المقدسة من خلق سموات جديدة وأرض جديدة تتحقق فيها وحدة العالم الإنساني، ويتحقق السلام الأعظم، وتزول الحروب والاختلافات من بين العالم. ولقد جاء في كتابه الأقدس، وكتبه وألواحه الأخرى بالنظم والقوانين والأحكام التي تكفل كل هذا.